الشريعة والتشريع وخصائص الشريعة الإسلامية
بقلم : الأستاذة فاطمة السيد علي
سباك
الشرع في
اللغة: مصدر شرع.
والشريعة لغة: مورد الماء الذي يقصد
للشرب ثم استعملها العرب في الطريقة المستقيمة وذلك باعتبار أن مورد الماء سبيل
الحياة والسلامة للأبدان، وكذلك الشأن في الشريعة فهي تهدي الناس إلى الخير وفيها
حياة للنفوس(1).
واصطلاحاً: هي المنهج الحق المستقيم
الذي يصون الإنسانية من الزيغ والانحراف ويجنبها مزالق الشر ونوازع الهوى(2).
الغاية من تشريع الله: هي استقامة
الإِنسان على الجادة لينال عز الدنيا وسعادة الآخرة.
مكانة الشريعة
الإسلامية بين الشرائع السماوية الأخرى
كانت رسالة كل رسول عليه السلام قاصرةً على
قومه خاصةً في إصلاح ما فسد من عقائدهم وأخلاقهم والعمل على تهذيب نفوسهم وأرواحهم
بإرجاعها إِلى فطرة التوحيد حيث كانت المجتمعات الإِنسانية في أطوارها الأولى
محدودة المطالب بدائية النشأة سطحية التفكير محصورة في نطاق بيئتها ولم يكن أمر
الناس متشعب النواحي ضيق المسالك حتى تحتاج الخليقة إلى نظم تذلل بها عقبات الحياة
وتحل مشكلاتها فلم يشأ الله البقاء لرسالة رسول قبل النبي الخاتم محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم كي تحمل عناصر الخلود فكانت شريعة كل رسول خاصةً لقومه
للمحافظة على عقيدة التوحيد التي فطر الله الناس عليها.
فلما نضج العقل البشري وتعقدت أمامه مشكلات
حياته أذن الله ببعثة النبي صلى الله
عليه وسلم ليكتمل صرح
الحضارة الإنسانية التي بناها رسل الله وقال عليه الصلاة والسلام (إِن مثلي ومثل
الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إِلا موضع لبنة من زاوية فجعل
الناس يطوفون ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم
النبيين) صلى الله عليه وسلم.
أهمية دراسة تاريخ
التشريع والفقه الإسلامي
إِن دراسة التشريع والفقه الإِسلامي لها
أهمية كبيرة لأنها تتناول الحياة الإسلامية في أخص عناصر مقوماتها حيث كانت شريعة
الإِسلام هي القاعدة التي أقيم عليها بناء الأمة والمنطلق الذي ارتكزت عليه في
حضارتها.
الفرق بين التشريع
السماوي والقانون الوضعي
1- القانون الوضعي تنظيم بشري من صنع
الناس، والبشر يخضعون للأهواء والنزعات وتتغلب عليهم العواطف البشرية فيقعون تحت
تأثير هذه العوامل التي تحيد بهم عن تقدير الحق والقيام على شؤون الحياة بالقسط
ومهما ارتقى الناس في سلم المعرفة فإِنهم لايستطيعون أن يدركوا حقائق الأمور أن
يحيطوا بها علمًا وبهذا تكون القوانين الوضعية عرضةً للتغير والتبديل ولايكون لها
مقياس ثابت لحكم فما هو حلال اليوم قد يصير حرامًا غدًا وبذلك تختلف موازين الحياة
ومقاييس الخير والشر وتتلون بتلون الإِنسان وتحول ميوله وعواطفه فتظلّ الحياة
الإِنسانية في اضطراب دائم كما نشاهده اليوم في حياة الأمم التي تحكم بغير ما أنزل
الله.
أما الشريعة فهي وحي إِلهي منزه عن ذلك كله
فهي تنزيل الحكيم العليم الذي يعلم أحوال عباده وما يصلح معاشهم ومعادهم وما يحقق
لهم الخير في دنياهم واخراهم قال الله سبحانه وتعالى ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14] وهو سبحانه منزه عما
يعتري الخلق من القصور والنقص؛ يقول سبحانه وتعالى ﴿لاَيَضِلُّ رَبِّي
وَلاَ يَنْسَى﴾ [طه:52] وقد بيّنت الشريعة الإِسلامية الأصول الكلية التي
تقوم عليها حياة البشر.
2- القانون الوضعي نظام محدود القواعد
يلبيّ حاجة الجماعة لتنظيم حياتهم الحاضرة ويتبلور بتطورها.
أما التشريع السماوي فهو يولد متكاملاً
وافيًا بمطالب الحياة.
3- القانون الوضعي لايتناول سوى المعاملات
المدنية في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية التي تقوم عليها سلطة الدولة.
أما الشريعة الإِسلامية فهي تتناول
الإِيمان بالله ورسله وعالم الغيب وصلة العبد بربه وسلوكه الاخلاقي وانظمة الحياة
المختلفة في شتى مرافقها.
4- تفقد القوانين الوضعية سلطتها على النفس
البشرية لأن سلطة العقوبة وحدها لا تكفي في ردع المجرم ولذا فإِن واضعي القانون
يعملون على ترشيد الجماهير وإِقناعها بصلاحية النظم التي وضعوها حتى يمتثلوا لها
ولكن الناس يدركون أن لا سلطة للقوانين الوضعية إلا إذا وقع المرء تحت طائلة
المخالفة وضبط متلبسًا بجريمته إِذا لا علاقة لها بالحياة الآخرة فيكون المجال
فسيحًا للخروج على القانون بوسائل الحيلة والدهاء فلا يمنع وصول الناس إلى أغراضهم
السيئة من فساد في الأرض أي قانون مهما كان دقيقًا.
أما الشريعة الإِسلامية فإِنها تنبثق من
فكرة الحلال والحرام والإيمان بالدار الآخرة وتربّي الضمير الإِنساني ليكون رقيبًا
على المسلم في السر والعلن يخشى عقاب الله الأخروي أكثر من خشيته للعقاب الدنيوي.
ففي القتل يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾
[النساء:93] وبذلك يقيم الإِسلام من داخل النفس البشرية رقابةً على تعاليمه بحيث
يرعاها المسلم في جوف الليل كما يرعاها في وضح النهار.
خصائص الشريعة
1- للشريعة الإسلامية مصدران:
القرآن والسنة؛ فالقرآن وحي الله إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم باللفظ والمعنى(3)؛ أما السنة، فهي بالمعنى دون اللفظ لأن
اللفظ من عند الرسول صلى الله عليه وسلم .
2- الجزاء في الشريعة دنيوي وأخروي:
أمَّا في القوانين الوضعية فإِنَّ الجزاء قد يكون جنائيًا يتمثل بأذى يصيب جسم
الإنسان أو يقيد حريته أو يصيب ماله بنقص (غرامه).
والشريعة الإِسلامية تتفق مع القوانين
الوضعية في أن الجزاء الذي يقع على المخالف دنيوي مادي أو جسدي ولم تختلف معه في
أن الجزاء فيها أخروي ودنيوي؛ بل إِن الأصل في أجزيتها هو الجزاء الأخروي فحتى لو
لم يعاقب الإِنسان دنيويًا بعدم معرفة السلطات له إِلا، أنه لن ينجو من العقاب
الأخروي وهذا ما تشير إِليه النصوص الكثيرة، فقد كان العرب في الجاهلية مولعين
بشرب الخمر فلما جاء الإسلام أبان لهم أن إثم الخمر أكبر من نفعها المتمثل في
الربح المادي ثم أمر أن لايقربوا الصلاة وهم سكارى ثم نزل الحكم النهائي بتحريمها
فقال الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:90] فكان لكلمة ﴿فاجتنبوه﴾
من الهيبة والتأثير في النفوس أن قام المسلمون بإراقة الخمور وامتنعوا عن شربها
نهائيًا.
ولو نظرنا إلى القوانين الوضعية لم نر
شيئًا كهذا ففي بداية القرن العشرين أرادت الولايات المتحدة المريكية أن تخلص
شعبها من مضار الخمر وتجرب ماجاءت به الشريعة الإِسلامية فشرعت سنة 1930م قانون
تحريم الخمر والذي حرم على الناس بيع الخمور أو شراءها أو صنعها أو تصديرها أو
استيرادها وقد مهدت الحكومة لهذا القانون بدعاية واسعة وكلها تبين مضار الخمور
وَقُدِّر ما أنفق على هذه الدعاية (65) مليون دولار وانفق ماقدر مجموعه أربعة
ملايين ونصف مليون من الدولارات لأجل تنفيذ هذا القانون.. ودلت الإحصائيات لفترة
تتراوح بين سنتين ونصف وثلاث سنوات أنه قتل في سبيل هذا القانون مائتا شخص وحبس
نصف مليون شخص وغرم المخالفون له غرامات تبلغ مليون ونصف المليون دولار وصودرت
أموال بسبب مخالفته تقدر بأربعمائة مليون دولار.
وفي نهاية المطاف اضطرت
الحكومة الأمريكية إِلى إِلغاء هذا القانون؛ ذلك أن القانون ليس له سيطرة على
النفوس بعكس الشريعة الإسلامية التي تجبر الناس على اتباع أوامرها لما لها من
تأثير في النفوس دون الحاجة إلى دعاية إِعلامية أو نشرات وكتب.
3- العدل
والمساواة
جاءت الشريعة الإِسلامية بمبدأ المساواة
بين الناس بغضّ النظر عن اختلافهم في اللون أو الجنس أو اللغة وجعلت أساس التفاضل
بينهم العمل الصالح ومقدار ما يقدّمه الفرد من خير قال الله تعالى ﴿يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13].
وهذا المبدأ الأصيل جاءت به الشريعة
الإِسلامية في وقت كانت العصبية للجنس والقبيلة هي الأساس في المجتمع وفي تمايز
الناس وتفاضلهم وقد طبق هذا المبدأ العادل القويم واجتثت جذور العصبية ولم يعد
هناك امتياز للون أو جنس (فلا فضل لعربي على أعجمي إِلا بالتقوى)(4)
وصار الجميع متساوين أمام الشريعة الإِسلامية حتى إِن الرسول عليه الصلاة والسلام
قال لمن استشفع للمخزومية التي سرقت (وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت
يدها).
وقد بلغ تطبيق هذا المبدأ من الدقة إِلى حد
أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على من قال لمسلم غير عربي (يا ابن السوداء)
واعتبر ذلك من بقايا الجاهلية وتفاخرها بالأنساب والأجناس.
وفي القرن العشرين لم تستطع كثير من الدول
تحقيق هذا المبدأ العادل ففي الولايات المتحدة الأمريكية لاتزال الفروق قائمة بين
المواطنين على أساس اللون والجنس فصاحب البشرة البيضاء أسمى منزلةً وأعلى قدرًا من
صاحب البشرة السوداء ولا مساواة بين الاثنين أمام القانون ولا في المجتمع وإِن كان
الاثنان يحملان الجنسية الأمريكية والقانون يحمي هذا التمايز ويقره بل إن بعض
الولايات الأمريكية تنص دساتيرها على أحكام غريبة فمن ذلك النص على أن الزواج بين
شخص أبيض وامرأة زنجية أو العكس يعتبر زواجًا باطلاً، كما ينص القانون على كل من
يطبع أو ينشر أو يوزع مافيه حث للجمهور على إِقرار المساواة الاجتماعية والتزاوج
بين البيض والسود أو تقديم حجج للجمهور أو مجرد اقتراح في هذا السبيل يعتبر عمله
جريمةً يعاقب عليها القانون بغرامة مالية أو بالسجن مدة قد تصل إلى ستة أشهر أو
بالعقوبتين معًا(5).
4- شمول الشريعة
(أ) الشريعة الإِسلامية نظام شامل لجميع
شؤون الحياة فهي تشمل الأحكام المتعلقة بالأخلاق كوجوب الصدق والأمانة والوفاء
بالعهد وتحريم الكذب والخيانة.
(ب) كما تشمل الأحكام المتعلقة بالعقيدة
كالإيمان بالله واليوم الآخر.
(ج) كما تشمل الأحكام المتعلقة بالعبادات
كالصلاة والصيام.. الخ.
(د) الأحكام المتعلقة بالأسرة كالزواج
والطلاق والأولاد وعلاقتهم بآبائهم وعلاقة الآباء بأبنائهم.
(هـ) الأحكام المتعلقة
بالأفراد أو بعضهم البعض وعلاقة الأفراد بالمجتمع وعلاقة المجتمع بالفرد.
(و) الأحكام المتعلقة بتنظيم علاقة الدولة
الإسلامية بالدول الأخرى في السلم والحرب وهو ما يعرف اليوم بالقانون الدولي.
(ز) الأحكام المتعلقة بموارد الدولة
ومصارفها وتنظيم العلاقات المالية بين الأغنياء والفقراء وتحريم الكسب الحرام
وعلاقة الأفراد المالية وهو مايعرف في الوقت الحاضر بالقانون المالي.
(ح) الأحكام المتعلقة بتحديد علاقة الفرد
مع الدولة من جهة، وعلاقة الدولة مع الفرد من جهة الأعمال المنهي عنها (الجرائم
والمخالفات) وهو ما يعرف بالقانون الجنائي.
5- مبدأ الشورى
جاءت الشريعة الإسلامية بمبدأ الشورى في
الحكم قال الله سبحانه تعالى ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ [آل
عمران:159]
وقال جل من قائل ﴿وَأَمْرُهُمْ
شُوْرَىٰ بَيْنَهُمْ﴾ ]الشورى:38].
* * *
الهوامش:
(1) تفسير القرطبي، ج18، ص10.
(2) محمد سلام مولوي، تاريخ التشريع
الإسلامي، ص11.
(3) الامام علي بن محمد الأمدي،
الاحكام في أصول الاحكام، المجلد الأول، الجزء الأول ص 223.
(4) الحديث رواه البيهقي بهذا اللفظ
(يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن اباكم واحد لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي
على عربي ولا أحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى).
(5)
على
شحاته، الرق بيننا وبين أمريكا، ص49.
صفر -
ربيع الأول 1430هـ = فبراير - مارس 2009م
، العـدد : 2-3 ، السنـة : 33